يمكن القول إن منتصف شهر سبتمبر 2008 الماضي شهد تفجر الأزمة المالية في الولايات المتحدة لدرجة أن المحللين الاقتصاديين والسياسيين اعتبروا بداية الأسبوع الثالث في هذا الشهر "أسبوعا داميا" وتاريخيا للاقتصاد الأميركي انهارت فيه مؤسسات مالية ضخمة، بعد سنوات طويلة من النجاح، واضطرت مؤسسات أخرى للاندماج خشية السقوط، في حين تواصل المد الزلزالي الاقتصادي ليطال مؤسسات مالية كبرى في أوروبا وآسيا باعتباره نتيجة محتومة لارتباطها الاستثماري بالسوق المالية الأميركية. وقد تكاتفت الكثير من الأسباب لخلق هذه الأزمة المالية، ولم يقتصر أثرها علي التأثير علي القطاع المالي بزيادة حجم المخاطر نتيجة للتوسع المحموم في الأصول المالية، بل إنه هدد أحد أهم عناصر هذا القطاع وهو «الثقة»، فرغم أن العناصر الثلاثة المشار إليها ـ زيادة الاقتراض، وتركيز المخاطر، ونقص الرقابة والإشراف ـ كافية لإحداث أزمة عميقة. فإن الأمور تصبح أكثر خطورة إذا فقدت الثقة أو ضعفت في النظام المالي الذي يقوم علي ثقة الأفراد، ويزداد الأمر تعقيداً نتيجة للتداخل بين المؤسسات المالية في مختلف الدول، فجميع المؤسسات المالية ـ وبلا استثناء ـ تتعامل مع بعضها البعض، وأي مشكلة عويصة تصيب إحدي هذه المؤسسات، لابد أن تنعكس بشكل مضاعف علي بقية النظام المالي العالمي «العولمة».
وهكذا نجد أن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة للتوسع غير المنضبط في القطاع المالي في الولايات المتحدة ومن ورائه في بقية دول العالم المتقدم، ودول العالم الثالث ومن ضمنها السودان.
تحرك ... وإهتمام ... وقلق عالمي
الأزمة المالية التي ألقت بظلالها على كل المجالت الإقتصادية خاصة أسواق النفط حيث هبطت أسعاره نتيجة لتراجع النمو، من حوالي 120دولارا الي حوالي 55 دولارا للبرميل، قد هيمنت الأزمة المالية العالمية على خطابات زعماء العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ63 بنيويورك، وعلي جميع المحافل العامية والدولية والإقليمية الأخري. ولقد أدت الأزمة المالية المستفحلة الي قلق عظيم عبر عنه أكبر القادة في العالم، وتعليقا على الإعصار المالي الذي تجاوز أميركا ليؤثر على اقتصادات العالم، وصف رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون الوضع بـ"الأزمة الكبرى التي تدفع النظام الاقتصادي العالمي برمته إلى شفير الهاوية"، مشيرا إلى أنها أزمة "تحدث مرة فقط كل قرن أو قرنين". من جهته ناشد رئيس مجموعة منطقة اليورو جان كلود يونكر المسؤولين الأميركيين الاتفاق "في أسرع وقت ممكن"، وأضاف أن "المصارف الأوروبية التي بدأت تغوص في المياه العكرة تعاني من هذا الغموض".
و قال الرئيس الأميركي جورج بوش إن "الاقتصاد الأميركي في خطر، وقطاعات رئيسية في النظام المالي الأميركي مهددة بالإغلاق"، أما الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين ذكر إن "هذا لم يعد انعداما للإحساس بالمسؤولية من جانب بعض الأفراد، بل عدم إحساس بالمسؤولية لدى النظام كله الذي يتباهى بالزعامة العالمية". وفي نفس الإتجاه عبر رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون قائلا: "الاستهتار داخل الولايات المتحدة بالنظام المالي هو الذي أدى إلى أزمة الائتمان المالي التي يعاني منها العالم". الرئيس السابق للاحتياطي الفدرالي الأميركي آلان غرينسبان قال إن "الأزمة هي الأخطر منذ قرن، ولم تنته بعد وستستغرق مزيدا من الوقت، وأتوقع انهيار العديد من المؤسسات المالية الكبرى بسبب القسوة الاستثنائية لهذه الأزمة". أما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون فقد أوضح أن : "الأزمة المالية تهدد معيشة مليارات الأشخاص عبر العالم خصوصا الأكثر فقرا". وهو نفس ما ذهب اليه رئيس البنك الدولي روبرت زوليك من أن "الأزمة ستؤثر سلبا على الدول النامية، التي تواجه بالفعل ضغوطا على ميزانيات المدفوعات، لأن الأسعار المرتفعة تؤدي إلى تضخم فواتير الواردات". وأعرب رئيس البنك الدولي روبرت زوليك أيضا عن قلقه من الضرر الاقتصادي الذي قد يلحق الدول النامية جراء الأزمة المالية التي تعصف بالعالم، خاصة أن هذه الدول تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة قد قال في وقت سابق من شهر سبتمبر 2008 الماضي إنه يمكن القضاء على الفقر إذا قدمت الدول الغنية 72 مليار دولار سنويا. ولكنه حذر من أن الأزمة المالية تهدد معيشة مليارات الأشخاص عبر العالم وخصوصا الأكثر فقرا، في حين حث عدد من القادة على ضرورة اتخاذ إجراءات قوية للحد من الفقر في العالم لمواجهة تداعيات الأزمة المالية. وقال لدى افتتاح قمة مكافحة الفقر في مقر الأمم المتحدة في نيويورك إن الأزمة تزيد من تفاقم الأضرار الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة. وحث بان كي مون أمام عدد من قادة العالم وممثلي القطاع الخاص والمجتمع المدني، المجتمع الدولي على التحرك الفوري ليكون في مستوى هذه التحديات، وعلى إعطاء دفعة جديدة للشراكة العالمية من أجل التنمية. كما ركز وزير المالية الألماني بير شتاينبروك، علي أن "الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية الأزمة المالية العالمية الراهنة بسبب الحملة الأنغلوساكسونية التي تهدف لتحقيق أرباح كبيرة، ومكافآت هائلة للمصرفيين وكبار مديري الشركات، والأزمة ستخلف أثارا عميقة وستحدث تحولات في النظام المالي العالمي". في السياق ذاته أكد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن الأزمة الاقتصادية والمالية سيكون لها انعكاسات سلبية في الأشهر القادمة على النمو والبطالة والقدرة الشرائية للفرنسيين.